فصل: تفسير الآيات رقم (9- 11)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


الجزء الثامن عشر

تَفْسِيرُ سُورَةِ النَّمْل

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا فِيمَا كَانَ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ، فَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏طس‏)‏ مِنْ ذَلِكَ‏.‏ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏طس‏)‏ قَسَمٌ أَقْسَمَهُ اللَّهُ هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏طس‏)‏ قَسَمٌ أَقْسَمَهُ اللَّهُ هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ‏.‏

فَالْوَاجِبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ‏:‏ وَالسَّمِيعِ اللَّطِيفِ، إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلْتُهَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ لِآيَاتِ الْقُرْآنِ، وَآيَاتِ كِتَابٍ مُبِينٍ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ يَبِينُ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ، وَفَكَّرَ فِيهِ بِفَهْمٍ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ، لَمْ تَتَخَرَّصْهُ أَنْتَ وَلَمْ تَتَقَوَّلْهُ، وَلَا أَحَدٌ سِوَاكَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ تَظَاهَرَ عَلَيْهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ‏.‏ وَخَفَضَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَكِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ عَطْفًا بِهِ عَلَى الْقُرْآنِ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏هُدًى‏)‏ مِنْ صِفَةِ الْقُرْآنِ‏.‏

يَقُولُ‏:‏ هَذِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ بَيَّنَ بِهِ طَرِيقَ الْحَقِّ وَسَبِيلَ السَّلَامِ‏.‏ ‏{‏وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَبِشَارَةٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَصَدَّقَ بِمَا أَنْزَلَ فِيهِ بِالْفَوْزِ الْعَظِيمِ فِي الْمَعَادِ‏.‏

وَفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏هُدًى وَبُشْرَى‏)‏ وَجْهَانِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ‏:‏ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِمَعْنَى‏:‏ هُوَ هُدًى وَبُشْرَى‏.‏ وَالنَّصْبُ عَلَى الْقَطْعِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ‏:‏ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْهُدَى وَالْبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أُسْقِطَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ مِنَ الْهُدَى وَالْبُشْرَى، فَصَارَا نَكِرَةً، وَهُمَا صِفَةٌ لِلْمَعْرِفَةِ فَنُصِبَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ هُوَ هُدًى وَبُشْرَى لِمَنْ آمَنَ بِهَا، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ بِحُدُودِهَا‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَيُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ وَيُطَهِّرُونَ أَجْسَادَهُمْ مِنْ دَنَسِ الْمَعَاصِي‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏ ‏{‏وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَهُمْ مَعَ إِقَامَتِهِمُ الصَّلَاةَ، وَإِيتَائِهِمُ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ، بِالْمَعَادِ إِلَى اللَّهِ بَعْدَ الْمَمَاتِ يُوقِنُونَ، فَيَذِلُّونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، رَجَاءَ جَزِيلِ ثَوَابِهِ، وَخَوْفَ عَظِيمِ عِقَابِهِ، وَلَيْسُوا كَالَّذِينِ يُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ، وَلَا يُبَالُونَ، أَحْسَنُوا أَمْ أَسَاءُوا، وَأَطَاعُوا أَمْ عَصَوْا، لِأَنَّهُمْ إِنْ أَحْسَنُوا لَمْ يَرْجُوَا ثَوَابًا، وَإِنْ أَسَاءُوا لَمْ يَخَافُوا عِقَابًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَبِالْمَعَادِ إِلَى اللَّهِ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ‏.‏ ‏{‏زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ‏}‏‏.‏

يَقُولُ‏:‏ حَبَّبْنَا إِلَيْهِمْ قَبِيحَ أَعْمَالِهِمْ، وَسَهَّلْنَا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ‏.‏ ‏{‏فَهُمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَهُمْ فِي ضَلَالِ أَعْمَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ الَّتِي زَيَّنَّاهَا لَهُمْ يَتَرَدَّدُونَ حَيَارَى يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا، وَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا بِبَدْرٍ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ‏.‏

يَقُولُ‏:‏ وَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمُ الْأَوْضَعُونَ تِجَارَةً وَالْأَوْكَسُوهَا بِاشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ‏{‏فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَتُحَفَّظُ الْقُرْآنَ وَتُعَلَّمُهُ ‏{‏مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ، عَلِيمٍ بِأَنْبَاءِ خَلْقِهِ وَمَصَالِحِهِمْ، وَالْكَائِنِ مِنْ أُمُورِهِمْ، وَالْمَاضِي مِنْ أَخْبَارِهِمْ، وَالْحَادِثِ مِنْهَا‏.‏ ‏{‏إِذْ قَالَ مُوسَى‏}‏ وَإِذْ مِنْ صِلَةِ عَلِيمٍ‏.‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ عَلِيمٌ حِينَ قَالَ مُوسَى ‏(‏لِأَهْلِهِ‏)‏ وَهُوَ فِي مَسِيرِهِ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ، وَقَدْ آذَاهُمْ بَرْدُ لَيْلِهِمْ لَمَّا أَصْلَدَ زَنْدَهُ‏.‏ ‏{‏إِنِّي آنَسْتُ نَارًا‏}‏ أَيْ أَبْصَرْتُ نَارًا أَوْ أَحْسَسْتُهَا، فَامْكُثُوا مَكَانَكُمْ ‏{‏سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ‏}‏ يَعْنِي مِنَ النَّارِ، وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ مِنْ ذِكْرِ النَّارِ ‏{‏أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ‏:‏ “ بِشِهَابِ قَبَسٍ “ بِإِضَافَةِ الشِّهَابِ إِلَى الْقَبَسِ، وَتَرْكِ التَّنْوِينِ، بِمَعْنَى‏:‏ أَوْ آتِيكُمْ بِشُعْلَةِ نَارٍ أَقْتَبِسُهَا مِنْهَا‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ‏:‏ ‏{‏بِشِهَابٍ قَبَسٍ‏}‏ بِتَنْوِينِ الشِّهَابِ وَتَرْكِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْقَبَسِ، يَعْنِي‏:‏ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ مُقْتَبَسٍ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ‏.‏ وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ‏:‏ إِذَا جُعِلَ الْقَبَسُ بَدَلًا مِنَ الشِّهَابِ، فَالتَّنْوِينُ فِي الشِّهَابِ، وَإِنْ أَضَافَ الشِّهَابَ إِلَى الْقَبَسِ لَمْ يُنَوَّنِ الشِّهَابُ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ‏:‏ إِذَا أُضِيفَ الشِّهَابُ إِلَى الْقَبَسِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ ‏{‏وَلَدَارُ الْآخِرَةِ‏}‏ مِمَّا يُضَافُ إِلَى نَفْسِهِ إِذَا اخْتَلَفَ اسْمَاهُ وَلَفْظَاهُ تَوَهُّمًا بِالثَّانِي أَنَّهُ غَيْرُ الْأَوَّلِ قَالَ‏:‏ وَمِثْلُهُ حَبَّةُ الْخَضْرَاءِ، وَلَيْلَةُ الْقَمْرَاءِ، وَيَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا أَشْبَهَهُ‏.‏ وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ‏:‏ إِنْ كَانَ الشِّهَابُ هُوَ الْقَبَسُ لَمْ تَجُزِ الْإِضَافَةُ، لِأَنَّ الْقَبَسَ نَعْتٌ، وَلَا يُضَافُ الِاسْمُ إِلَى نَعْتِهِ إِلَّا فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَقَدْ جَاءَ‏:‏ ‏{‏وَلَدَارُ الْآخِرَةِ‏}‏ و ‏{‏وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ‏}‏‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ الشِّهَابَ إِذَا أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ الْقَبَسِ، فَالْقِرَاءَةُ فِيهِ بِالْإِضَافَةِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ، مَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهُ شُعْلَةُ قَبَسٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

فِـي كَفِّـهِ صَعْـدَةٌ مُثَقَّفَـةٌ *** فِيهَـا سِـنَانٌ كَشُـعْلَةِ الْقَبَسِ

وَإِذَا أُرِيدَ بِالشِّهَابِ أَنَّهُ هُوَ الْقَبَسُ، أَوْ أَنَّهُ نَعْتٌ لَهُ، فَالصَّوَابُ فِي الشِّهَابِ التَّنْوِينُ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَرْكُ إِضَافَةِ الِاسْمِ إِلَى نَعْتِهِ، وَإِلَى نَفْسِهِ، بَلِ الْإِضَافَاتُ فِي كَلَامِهَا الْمَعْرُوفِ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِ نَفْسِهِ وَغَيْرِ نَعْتِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ كَيْ تَصْطَلُوا بِهَا مِنَ الْبَرْدِ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى النَّارَ الَّتِي آنَسَهَا ‏{‏نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ قُدِّسَ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ ‏{‏مَنْ فِي النَّارِ‏}‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عَنَى جَلَّ جَلَالُهُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ فِي النَّارِ، وَكَانَتِ النَّارُ نُورُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ‏}‏ يَعْنِي نَفْسَهُ؛ قَالَ‏:‏ كَانَ نُورُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الشَّجَرَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو الْعَالِيَةِ الْعَبْدِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ، عَنْ وَرْقَاءٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ‏}‏ قَالَ‏:‏ نَادَاهُ وَهُوَ فِي النَّارِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ النُّورُ‏.‏

قَالَ مَعْمَرٌ‏:‏ قَالَ قَتَادَةُ‏:‏ ‏{‏بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ‏}‏ قَالَ‏:‏ نُورُ اللَّهِ بُورِكَ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ‏:‏ ‏{‏بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ‏}‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ بُورِكَتِ النَّارُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْأَشْيَبُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ‏}‏ بُورِكَتِ النَّارُ‏.‏ كَذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ‏}‏ قَالَ‏:‏ بُورِكَتِ النَّارُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏{‏بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ‏}‏ قَالَ‏:‏ بُورِكَتِ النَّارُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ قَالَ‏:‏ ثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ‏}‏ نُورُ الرَّحْمَنِ، وَالنُّورُ هُوَ اللَّهُ ‏{‏وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى النَّارِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ النُّورُ، كَمَا ذَكَرْتُ عَمَّنْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ عَنْهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَاهُ النَّارُ لَا النُّورُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ قَالَ‏:‏ حِجَابُ الْعِزَّةِ، وَحِجَابُ الْمُلْكِ، وَحِجَابُ السُّلْطَانِ، وَحِجَابُ النَّارِ، وَهِيَ تِلْكَ النَّارُ الَّتِي نُودِيَ مِنْهَا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَحِجَابُ النُّورِ، وَحِجَابُ الْغَمَامِ، وَحِجَابُ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا قِيلَ‏:‏ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ بُورِكَ فَيمَنْ فِي النَّارِ عَلَى لُغَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ‏:‏ بَارَكَكَ اللَّهُ‏.‏ وَالْعَرَبُ تَقُولُ‏:‏ بَارَكَكَ اللَّهُ، وَبَارَكَ فِيكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَمَنْ حَوْلَ النَّارِ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ عَنَى بِمَنْ حَوْلَهَا‏:‏ الْمَلَائِكَةَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الْحَسَنِ، مِثْلَهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ مُوسَى وَالْمَلَائِكَةُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ ‏{‏وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ مُوسَى النَّبِيُّ وَالْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَتَنْزِيهًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مِمَّا يَصِفُهُ بِهِ الظَّالِمُونَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِهِ لِمُوسَى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ‏}‏ فِي نِقْمَتِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ ‏(‏الْحَكِيمُ‏)‏ فِي تَدْبِيرِهِ فِي خَلْقِهِ، وَالْهَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ‏)‏ هَاءُ عِمَادٍ، وَهُوَ اسْمٌ لَا يَظْهَرُ فِي قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ‏:‏ يَقُولُ هِيَ الْهَاءُ الْمَجْهُولَةُ، وَمَعْنَاهَا‏:‏ أَنَّ الْأَمْرَ وَالشَّأْنَ‏:‏ أَنَا اللَّهُ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ‏}‏ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تُرِكَ ذِكْرُهُ اسْتِغْنَاءً بِمَا ذُكِرَ عَمَّا حُذِفَ، وَهُوَ فَأَلْقَاهَا فَصَارَتْ حَيَّةً تَهْتَزُّ ‏{‏فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ كَأَنَّهَا حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَالْجَانُّ‏:‏ جِنْسٌ مِنَ الْحَيَّاتِ مَعْرُوفٌ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏{‏وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ‏}‏ قَالَ‏:‏ حِينَ تَحَوَّلَتْ حَيَّةً تَسْعَى، وَهَذَا الْجِنْسُ مِنَ الْحَيَّاتِ عَنَى الرَّاجِزُ بِقَوْلِهِ‏:‏

يَـرْفَعْنَ بِـاللَّيِلِ إِذَا مَـا أسْـدَفَا *** أَعْنَـاقَ جِنَّـانٍ وَهَامًـا رُجَّفَـا

وَعَنَقًا بَعْدَ الرَّسِيمِ خَيْطَفَا

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَّى مُدْبِرًا‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَّى مُوسَى هَارِبًا خَوْفًا مِنْهَا ‏{‏وَلَمْ يُعَقِّبْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَمْ يَرْجِعْ‏.‏ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ عَقَّبَ فُلَانٌ‏:‏ إِذَا رَجَعَ عَلَى عَقِبِهِ إِلَى حَيْثُ بَدَأَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يُعَقِّبْ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَمْ يَرْجِعْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ لَمْ يَلْتَفِتْ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يُعَقِّبْ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَمْ يَرْجِعْ ‏(‏يَا مُوسَى‏)‏ قَالَ‏:‏ لَمَّا أَلْقَى الْعَصَا صَارَتْ حَيَّةً، فَرُعِبَ مِنْهَا وَجَزَعَ، فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَلَمْ يَرْعُو لِذَلِكَ، قَالَ‏:‏ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ ‏{‏أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَلَمْ يَقِفْ أَيْضًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا حَتَّى قَالَ‏:‏ ‏{‏سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى‏}‏ قَالَ‏:‏ فَالْتَفَتَ فَإِذَا هِيَ عَصًا كَمَا كَانَتْ، فَرَجَعَ فَأَخَذَهَا، ثُمَّ قَوِيَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ يُرْسِلُهَا عَلَى فِرْعَوْنَ وَيَأْخُذُهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَنَادَاهُ رَبُّهُ‏:‏ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ مِنْ هَذِهِ الْحَيَّةِ، إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ إِنِّي لَا يَخَافُ عِنْدِي رُسُلِي وَأَنْبِيَائِي الَّذِينَ أَخْتَصُّهُمْ بِالنُّبُوَّةِ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مِنْهُمْ، فَعَمِلَ بِغَيْرِ الَّذِي أُذِنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا يُخِيفُ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ إِلَّا بِذَنْبٍ يُصِيبُهُ أَحَدُهُمْ، فَإِنْ أَصَابَهُ أَخَافَهُ حَتَّى يَأْخُذَهُ مِنْهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْفَزَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ‏}‏ قَالَ‏:‏ إِنِّي إِنَّمَا أَخَفْتُكَ لِقَتْلِكَ النَّفْسَ، قَالَ‏:‏ وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تُذْنِبُ فَتُعَاقَبُ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ دُخُولِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مَعَ وَعْدِ اللَّهِ الْغُفْرَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ‏}‏ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏ وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ بِخِلَافِ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ إِنْ كَانَ مَا قَبْلُهُ مَنْفِيًّا مُثْبَتًا كَقَوْلِهِ‏:‏ مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ، فَزَيْدٌ مُثْبَتٌ لَهُ الْقِيَامُ، لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِمَّا قَبْلَ إِلَّا، وَمَا قَبْلَ إِلَّا مَنْفِيٌّ عَنْهُ الْقِيَامُ، وَأَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ إِنْ كَانَ مَا قَبْلَهُ مُثْبَتًا مَنْفِيًّا كَقَوْلِهِمْ‏:‏ قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا؛ فَزَيْدٌ مَنْفِيٌّ عَنْهُ الْقِيَامُ؛ وَمَعْنَاهُ‏:‏ إِنَّ زَيْدًا لَمْ يَقُمْ، الْقَوْمُ مُثْبَتٌ لَهُمُ الْقِيَامُ ‏{‏إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ‏}‏، فَقَدْ أَمَّنَهُ اللَّهُ بِوَعْدِهِ الْغُفْرَانَ وَالرَّحْمَةَ، وَأَدْخَلَهُ فِي عِدَادِ مَنْ لَا يَخَافُ لَدَيْهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ‏:‏ أُدْخِلَتْ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ إِلَّا تَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ، كَمِثْلِ قَوْلِ الْعَرَبِ‏:‏ مَا أَشْتَكِي إِلَّا خَيْرًا، فَلَمْ يَجْعَلْ قَوْلَهُ‏:‏ إِلَّا خَيْرًا عَلَى الشَّكْوَى، وَلَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ‏:‏ مَا أَشْتَكِي شَيْئًا أَنْ يَذْكُرَ عَنْ نَفْسِهِ خَيْرًا، كَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَا أَذْكُرُ إِلَّا خَيْرًا‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَقُولُ الْقَائِلَ‏:‏ كَيْفَ صَيَّرَ خَائِفًا مَنْ ظَلَمَ، ثُمَّ بَدَّلَ حَسَنًا بَعْدَ سُوءٍ، وَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ‏؟‏ فَأَقُولُ لَكَ‏:‏ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا أَنْ يَقُولَ‏:‏ إِنَّ الرُّسُلَ مَعْصُومَةٌ مَغْفُورٌ لَهَا آمِنَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فَهُوَ يَخَافُ وَيَرْجُو، فَهَذَا وَجْهٌ‏.‏ وَالْآخَرُ‏:‏ أَنْ يَجْعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الَّذِينَ تَرَكُوا فِي الْكَلِمَةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى‏:‏ لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، إِنَّمَا الْخَوْفُ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ كَانَ مُشْرِكًا، فَتَابَ مِنَ الشِّرْكِ، وَعَمِلَ حَسَنًا، فَذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ، وَلَيْسَ يَخَافُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ‏:‏ إِنَّ إِلَّا فِي اللُّغَةِ بِمَنْزِلَةِ الْوَاوِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، وَلَا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا، قَالَ‏:‏ وَجَعَلُوا مَثَلَهُ كَقَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ وَلَمْ أَجِدِ الْعَرَبِيَّةَ تَحْتَمِلُ مَا قَالُوا، لِأَنِّي لَا أُجِيزُ‏:‏ قَامَ النَّاسُ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ قَائِمٌ، إِنَّمَا مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَخْرُجَ الِاسْمُ الَّذِي بَعْدَ إِلَّا مِنْ مَعْنَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي قَبِلَ إِلَّا‏.‏ وَقَدْ أَرَاهُ جَائِزًا أَنْ يَقُولَ‏:‏ لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ سِوَى أَلْفٍ آخَرَ؛ فَإِنْ وُضِعَتْ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ صَلَحَتْ، وَكَانَتْ إِلَّا فِي تَأْوِيلِ مَا قَالُوا، فَأَمَّا مُجَرَّدَةً قَدِ اسْتَثْنَى قَلِيلَهَا مِنْ كَثِيرِهَا فَلَا، وَلَكِنَّ مِثْلَهُ مِمَّا يَكُونُ مَعْنَى إِلَّا كَمَعْنَى الْوَاوِ، وَلَيْسَتْ بِهَا قَوْلُهُ ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ‏}‏ هُوَ فِي الْمَعْنَى‏.‏ وَالَّذِي شَاءَ رَبُّكَ مِنَ الزِّيَادَةِ، فَلَا تُجْعَلْ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ الْوَاوِ، وَلَكِنْ بِمَنْزِلَةِ سِوَى؛ فَإِذَا كَانَتْ “ سِوَى “ فِي مَوْضِعِ “ إِلَّا “ صَلَحَتْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ‏:‏ عِنْدِي مَالٌ كَثِيرٌ سِوَى هَذَا‏:‏ أَيْ وَهَذَا عِنْدِي، كَأَنَّكَ قُلْتَ‏:‏ عِنْدِي مَالٌ كَثِيرٌ وَهَذَا أَيْضًا عِنْدِي، وَهُوَ فِي سِوَى أَبْعَدَ مِنْهُ فِي إِلَّا لِأَنَّكَ تَقُولُ‏:‏ عِنْدِي سِوَى هَذَا، وَلَا تَقُولُ‏:‏ عِنْدِي إِلَّا هَذَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ ‏{‏إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ‏}‏ عِنْدِي غَيْرُ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَكَيْنَا قَوْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمَنْ قَالَ قَوْلَهُمَا، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ ظَلَمَ‏}‏ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ مِنْ قَوْلِهِ ‏{‏لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ‏}‏ مِنْهُمْ فَأَتَى ذَنْبًا، فَإِنَّهُ خَائِفٌ لَدَيْهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَى قِيلِ اللَّهِ لِمُوسَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ قَالَ‏:‏ إِنِّي إِنَّمَا أَخَفْتُكَ لِقَتْلِكَ النَّفْسَ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَمَا وَجْهُ قِيلِهِ إِنْ كَانَ قَوْلُهُ ‏{‏إِلَّا مَنْ ظَلَمَ‏}‏ اسْتِثْنَاءً صَحِيحًا، وَخَارِجًا مِنْ عِدَادِ مَنْ لَا يَخَافُ لَدَيْهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَكَيْفَ يَكُونُ خَائِفًا مَنْ كَانَ قَدْ وُعِدَ الْغُفْرَانَ وَالرَّحْمَةَ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ إِنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ‏}‏ كَلَامٌ آخَرَ بَعْدَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ تَنَاهَى الْخَبَرُ عَنِ الرُّسُلِ مَنْ ظَلَمَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يَظْلِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ ‏{‏إِلَّا مَنْ ظَلَمَ‏}‏ ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَمَّنْ ظَلَمَ مِنَ الرُّسُلِ، وَسَائِرِ النَّاسِ غَيْرِهِمْ، وَقِيلَ‏:‏ فَمَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي لَهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَعَلَامَ تَعْطِفُ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتَ بِ ‏(‏ثُمَّ‏)‏ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏ظَلَمَ‏)‏‏؟‏ قِيلَ‏:‏ عَلَى مَتْرُوكٍ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ ‏{‏ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ‏}‏ عَلَيْهِ عَنْ إِظْهَارِهِ، إِذْ كَانَ قَدْ جَرَى قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ نَظِيرُهُ، وَهُوَ فَمَنْ ظَلَمَ مِنَ الْخَلْقِ‏.‏ وَأَمَّا الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةَ، فَقَدْ قَالُوا عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ أَغْفَلُوا مَعْنَى الْكَلِمَةِ وَحَمَلُوهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا مِنَ التَّأْوِيلِ‏.‏ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْكَلَامُ عَلَى وَجْهِهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَيُلْتَمَسُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لِلْإِعْرَابِ فِي الصِّحَّةِ مُخْرِجٌ لَا عَلَى إِحَالَةِ الْكَلِمَةِ عَنْ مَعْنَاهَا وَوَجْهِهَا الصَّحِيحِ مِنَ التَّأْوِيلِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَمَنْ أَتَى ظُلْمًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَرَكِبَ مَأْثَمًا، ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا، يَقُولُ‏:‏ ثُمَّ تَابَ مِنْ ظُلْمِهِ ذَلِكَ وَرُكُوبِهِ الْمَأْثَمَ، ‏{‏فَإِنِّي غَفُورٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَإِنِّي سَاتِرٌ عَلَى ذَنْبِهِ وَظُلْمِهِ ذَلِكَ بِعَفْوِي عَنْهُ، وَتَرْكِ عُقُوبَتِهِ عَلَيْهِ ‏(‏رَحِيمٌ‏)‏ بِهِ أَنْ أُعَاقِبَهُ بَعْدَ تَبْدِيلِهِ الْحَسَنَ بِضِدِّهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ‏}‏ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِ إِسَاءَتِهِ ‏{‏فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِهِ لِنَبِيِّهِ مُوسَى‏:‏ ‏{‏وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ‏}‏ ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَمَرَهُ أَنْ يُدْخِلَ كَفَّهُ فِي جَيْبِهِ؛ وَإِنَّمَا أَمْرُهُ بِإِدْخَالِهِ فِي جَيْبِهِ، لِأَنَّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ مِدْرَعَةً مِنْ صُوفٍ‏.‏ قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لَمْ يَكُنْ لَهَا كُمٌّ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ كَانَ كُمُّهَا إِلَى بَعْضِ يَدِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْكَفُّ فَقَطْ فِي جَيْبِكَ، قَالَ‏:‏ كَانَتْ مُدَرَّعَةً إِلَى بَعْضِ يَدِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهَا كُمٌّ أَمْرَهُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي كُمِّهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ إِنَّ مُوسَى أَتَى فِرْعَوْنَ حِينَ أَتَاهُ فِي ذُرْ مَانِقَةٍ، يَعْنِي جُبَّةَ صُوفٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏تَخْرُجْ بَيْضَاءَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ تَخْرُجُ الْيَدُ بَيْضَاءَ بِغَيْرِ لَوْنِ مُوسَى ‏{‏مِنْ غَيْرِ سُوءٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ ‏{‏فِي تِسْعِ آيَاتٍ‏}‏، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، فَهِيَ آيَةٌ فِي تِسْعِ آيَاتٍ مُرْسَلٌ أَنْتَ بِهِنَّ إِلَى فِرْعَوْنَ؛ وَتَرَكَ ذِكْرَ مُرْسَلٍ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ ‏{‏إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ‏}‏ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

رأتْنِـي بِحَبْلَيْهَـا فَصَـدَّتْ مَخَافَـةً *** وفِـي الْحَـبْلِ رَوْعَـاءُ الْفُـؤَادِ فَرُوقُ

وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ رَأَتْنِي مُقْبِلًا بِحَبْلَيْهَا، فَتَرَكَ ذِكْرَ “ مُقْبِلٍ “ اسْتِغْنَاءً بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ مَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ، إِذْ قَالَ‏:‏ رَأَتْنِي بِحَبْلَيْهَا؛ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرَةٌ‏.‏

وَالْآيَاتُ التِّسْعُ‏:‏ هُنَّ الْآيَاتُ الَّتِي بيَّنَّاهُنَّ فِيمَا مَضَى‏.‏

وَقَدْ حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِيقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ هِيَ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ‏:‏ الْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالطُّوفَانُ، وَالدَّمُ، وَالْحَجَرُ، وَالطَّمْسُ الَّذِي أَصَابَ آلَ فِرْعَوْنَ فِي أَمْوَالِهِمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مِنَ الْقِبْطِ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ، يَعْنِي كَافِرِينَ بِاللَّهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْفِسْقِ فِيمَا مَضَى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَلَمَّا جَاءَتْ فِرْعَوْنَ آيَاتُنَا، يَعْنِي‏:‏ أَدِلَّتَنَا وَحُجَجَنَا، عَلَى حَقِيقَةِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مُوسَى وَصِحَّتِهِ، وَهِيَ الْآيَاتُ التِّسْعُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَبْلُ‏.‏ وَقَوْلُهُ ‏(‏مُبْصِرَةً‏)‏ يَقُولُ‏:‏ يُبْصِرُ بِهَا مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا وَرَآهَا حَقِيقَةَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً‏}‏ قَالَ‏:‏ بَيِّنَةً ‏{‏قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ قَالَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ‏:‏ هَذَا الَّذِي جَاءَنَا بِهِ مُوسَى سِحْرٌ مُبِينٌ، يَقُولُ‏:‏ يَبِينُ لِلنَّاظِرِينَ لَهُ أَنَّهُ سِحْرٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَكَذَّبُوا بِالْآيَاتِ التِّسْعِ أَنْ تَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ الْجُحُودُ‏:‏ التَّكْذِيبُ بِهَا‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَيْقَنَتْهَا قُلُوبُهُمْ، وَعَلِمُوا يَقِينًا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَعَانَدُوا بَعْدَ تَبَيُّنِهِمُ الْحَقَّ، وَمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَقِينُهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ قَالَ‏:‏ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ الْآيَاتِ مِنَ اللَّهِ حَقٌّ، فَلِمَ جَحَدُوا بِهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ يَعْنِي بِالظُّلْمِ‏:‏ الِاعْتِدَاءُ، وَالْعُلُوِّ‏:‏ الْكِبْرُ، كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ اعْتِدَاءً وَتَكَبُّرًا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ قَالَ‏:‏ تُعَظُّمًا وَاسْتِكْبَارًا، وَمَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَجَحَدُوا بِالْآيَاتِ التِّسْعِ ظُلْمًا وَعُلُوًّا، وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَعَانَدُوا الْحَقَّ بَعْدَ وُضُوحِهِ لَهُمْ، فَهُوَ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ‏}‏‏.‏

وَيَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ بِعَيْنِ قَلْبِكَ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ تَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَحَدُوا آيَاتِنَا حِينَ جَاءَتْهُمْ مُبْصِرَةً، وَمَاذَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ إِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَمَعْصِيَتِهِمْ فِيهَا رَبَّهُمْ، وَأَعْقَبَهُمْ مَا فَعَلُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، إِلَى هَلَاكٍ فِي الْعَاجِلِ بِالْغَرَقِ، وَفِي الْآجِلِ إِلَى عَذَابٍ دَائِمٍ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ وَكَذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ سُنَّتِي فِي الَّذِينَ كَذَّبُوا بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ مِنْ قَوْمِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا‏}‏ وَذَلِكَ عِلْمُ كَلَامِ الطَّيْرِ وَالدَّوَابِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا خَصَّهُمُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ‏.‏ ‏{‏وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَقَالَ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا بِمَا خَصَّنَا بِهِ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي آتَانَاهُ، دُونَ سَائِرِ خَلْقِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي زَمَانِنَا هَذَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ فِي دَهْرِنَا هَذَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍإِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ‏}‏ أَبَاهُ ‏(‏دَاوُدَ‏)‏ الْعِلْمَ الَّذِي كَانَ آتَاهُ اللَّهُ فِي حَيَاتِهِ، وَالْمُلْكَ الَّذِي كَانَ خَصَّهُ بِهِ عَلَى سَائِرِ قَوْمِهِ، فَجَعَلَهُ لَهُ بَعْدَ أَبِيهِ دَاوُدَ دُونَ سَائِرِ وَلَدِ أَبِيهِ ‏{‏وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَقَالَ سُلَيْمَانُ لِقَوْمِهِ‏:‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ، يَعْنِي فَهِمْنَا كَلَامَهَا؛ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الطَّيْرِ كَمَنْطِقِ الرَّجُلِ مِنْ بَنِي آدَمَ إِذْ فَهِمَهُ عَنْهَا‏.‏

وَقَدْ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ‏}‏ قَالَ‏:‏ بَلَغَنَا أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ عَسْكَرُهُ مِائَةُ فَرْسَخٍ‏:‏ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْهَا لِلْإِنْسِ، وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْجِنِّ، وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْوَحْشِ، وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلطَّيْرِ، وَكَانَ لَهُ أَلْفُ بَيْتٍ مِنْ قَوَارِيرَ عَلَى الْخَشَبِ؛ فِيهَا ثَلَاثُ مِائَةِ صَرِيحَةٍ، وَسَبْعُ مِائَةِ سُرِّيَّةٍ، فَأَمَرَ الرِّيحَ الْعَاصِفَ فَرَفَعَتْهُ، وَأَمَرَ الرَّخَاءَ فَسَيَّرَتْهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَسِيرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ‏:‏ إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ بِشَيْءٍ إِلَّا جَاءَتِ الرِّيحُ فَأَخْبَرَتْهُ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأُعْطِينَا وَوُهِبَ لَنَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ هَذَا الَّذِي أُوتِينَا مِنَ الْخَيْرَاتِ لَهُوَ الْفَضْلُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ دَهْرِنَا الْمُبِينُ، يَقُولُ‏:‏ الَّذِي يَبِينُ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَتَدَبَّرَهُ أَنَّهُ فَضْلٌ أُعْطِينَاهُ عَلَى مَنْ سِوَانَا مِنَ النَّاسِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَجُمِعَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فِي مَسِيرٍ لَهُمْ، فَهُمْ يُوزَعُونَ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ‏{‏فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ فَهُمْ يُحْبَسُ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ حَتَّى يَجْتَمِعُوا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ جَعَلَ عَلَى كُلِّ صِنْفٍ مَنْ يَرُدُّ أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا لِئَلَّا يَتَقَدَّمُوا فِي الْمَسِيرِ، كَمَا تَصْنَعُ الْمُلُوكُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَرُدُّ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ فَهُمْ يُسَاقُونَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ يُوزَعُونَ‏:‏ يُسَاقُونَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَاهُ‏:‏ فَهُمْ يَتَقَدَّمُونَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ ‏(‏يُوزَعُونَ‏)‏ يَتَقَدَّمُونَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ يُرَدُّ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَازِعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْكَافُّ، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ وَزِعَ فُلَانٌ فُلَانًا عَنِ الظُّلْمِ‏:‏ إِذَا كَفَّهُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

أَلَـمْ يَـزَعِ الْهَـوَى إِذْ لَـمْ يُـؤَاتِ *** بَـلَى وَسَـلَوْتُ عَـنْ ضَلَـبِ الْفَتَـاةِ

وَقَالَ آخَرُ‏:‏

عَـلى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا *** وقُلْـتُ أَلَمَّـا أصْـحُ والشَّـيْبُ وَازِعُ

وَإِنَّمَا قِيلَ لِلَّذِينِ يَدْفَعُونَ النَّاسَ عَنِ الْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاءِ‏:‏ وَزَعَةٌ‏:‏ لِكَفِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْلَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏

يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ‏}‏ حَتَّى إِذَا أَتَى سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ عَلَى وَادِي النَّمْلِ ‏{‏قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَا يَكْسِرَنَّكُمْ وَيَقْتُلَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ‏{‏وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُحَطِّمُونَكُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَيَحْيَى، قَالَا ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ الْحَكَمُ، عَنْ عَوْفٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ نَمْلُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مِثْلَ الذُّبَابِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّوَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَتَبَسَّمَ سُلَيْمَانُ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِ النَّمْلَةِ الَّتِي قَالَتْ مَا قَالَتْ، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ‏}‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ ‏(‏أَوْزِعْنِي‏)‏ أَلْهِمْنِي‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ اجْعَلْنِي‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ‏}‏ قَالَ‏:‏ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، تَقُولُ‏:‏ أَوْزَعَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ، يَقُولُ‏:‏ حَرَّضَ عَلَيْهِ‏.‏ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏(‏أَوْزِعْنِي‏)‏ أَلْهِمْنِي وَحَرِّضْنِي عَلَى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَوْزِعْنِي أَنْ أَعْمَلَ بِطَاعَتِكَ وَمَا تَرْضَاهُ ‏{‏وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ مَعَ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، الَّذِينَ اخْتَرْتَهُمْ لِرِسَالَتِكَ وَانْتَخَبْتَهُمْ لِوَحْيِكَ، يَقُولُ‏:‏ أَدْخِلْنِي مِنَ الْجَنَّةِ مَدَاخِلَهُمْ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ مَعَ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏وَتَفَقَّدَ‏)‏ سُلَيْمَانُ ‏{‏الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ‏}‏‏.‏ وَكَانَ سَبَبُ تَفَقُّدِهِ الطَّيْرَ وَسُؤَالِهِ عَنِ الْهُدْهُدِ خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ الطَّيْرِ، مَا حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عِمْرَانَ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، قَالَ‏:‏ جَلَسَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْهُدْهُدِ‏:‏ لِمَ تَفَقَّدَهُ سُلَيْمَانُ مِنْ بَيْنِ الطَّيْرِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ‏:‏ إِنَّ سُلَيْمَانَ نَزَلَ مَنْزِلَةً فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَلَمْ يَدْرِ مَا بُعْدُ الْمَاءِ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ يَعْلَمُ بُعْدَ الْمَاءِ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ الْهُدْهُدُ، فَذَاكَ حِينَ تَفَقَّدَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عُمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ يُوضَعُ لَهُ سِتُّ مِائَةِ كُرْسِيٍّ، ثُمَّ يَجِيءُ أَشْرَافُ الْإِنْسِ فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِيهِ، ثُمَّ تَجِيءُ أَشْرَافُ الْجِنِّ فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِي الْإِنْسَ قَالَ‏:‏ ثُمَّ يَدْعُو الطَّيْرَ فَتُظِلُّهُمْ، ثُمَّ يَدْعُو الرِّيحَ فَتَحْمِلُهُمْ، قَالَ‏:‏ فَيَسِيرُ فِي الْغَدَاةِ الْوَاحِدَةِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، قَالَ‏:‏ فَبَيْنَا هُوَ فِي مَسِيرِهِ إِذِ احْتَاجَ إِلَى الْمَاءِ وَهُوَ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ‏:‏ فَدَعَا الْهُدْهُدَ، فَجَاءَهُ فَنَقَرَ الْأَرْضَ، فَيُصِيبُ مَوْضِعَ الْمَاءِ، قَالَ‏:‏ ثُمَّ تَجِيءُ الشَّيَاطِينُ فَيَسْلَخُونَهُ كَمَا يُسْلَخُ الْإِهَابُ، قَالَ‏:‏ ثُمَّ يَسْتَخْرِجُونَ الْمَاءَ‏.‏ فَقَالَ لَهُ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ‏:‏ قِفْ يَا وَقَاقُ، أَرَأَيْتَ قَوْلَكَ‏:‏ الْهُدْهُدُ يَجِيءُ فَيَنْقُرُ الْأَرْضَ، فَيُصِيبُ الْمَاءَ، كَيْفَ يُبْصِرُ هَذَا، وَلَا يُبْصِرُ الْفَخَّ يَجِيءُ حَتَّى يَقَعَ فِي عُنُقِهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ وَيْحَكَ إِنَّ الْقَدَرَ إِذَا جَاءَ حَالَ دُونَ الْبَصَرِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ‏:‏ كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى مَجْلِسِهِ عَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ، وَقَامَ لَهُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ حَتَّى يَجْلِسَ عَلَى سَرِيرِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ غَدَاةٍ فِي بَعْضِ زَمَانِهِ غَدَا إِلَى مَجْلِسِهِ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ فِيهِ، فَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ‏.‏ وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ يَأْتِيهِ نَوْبًا مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الطَّيْرِ طَائِرٌ، فَنَظَرَ فَرَأَى مِنْ أَصْنَافِ الطَّيْرِ كُلِّهَا قَدْ حَضَرَهُ إِلَّا الْهُدْهُدَ، فَقَالَ‏:‏ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ أَوَّلُ مَا فَقَدَ سُلَيْمَانُ الْهُدْهُدَ نَزَلَ بِوَادٍ فَسَأَلَ الْإِنْسَ عَنْ مَاءِهِ، فَقَالُوا‏:‏ مَا نَعْلَمُ لَهُ مَاءً، فَإِنْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ جُنُودِكَ يَعْلَمُ لَهُ مَاءً فَالْجِنُّ، فَدَعَا الْجِنَّ فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا‏:‏ مَا نَعْلَمُ لَهُ مَاءً وَإِنْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ جُنُودِكَ يَعْلَمُ لَهُ مَاءً فَالطَّيْرُ، فَدَعَا الطَّيْرَ فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا‏:‏ مَا نَعْلَمُ لَهُ مَاءً، وَإِنْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ جُنُودِكَ يَعْلَمُهُ فَالْهُدْهُدُ، فَلَمْ يَجِدْهُ، قَالَ‏:‏ فَذَاكَ أَوَّلُ مَا فَقَدَ الْهُدْهُدَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ تَفَقَّدَ الْهُدْهُدَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ يَدُلُّهُ عَلَى الْمَاءِ إِذَا رَكِبَ، وَإِنَّ سُلَيْمَانَ رَكِبَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ‏:‏ أَيْنَ الْهُدْهُدُ لِيَدُلَّنَا عَلَى الْمَاءِ‏؟‏ فَلَمْ يَجِدْهُ؛ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَفَقَّدَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ إِنَّ الْهُدْهُدَ كَانَ يَنْفَعُهُ الْحَذَرُ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ الْأَجَلُ؛ فَلَمَّا بَلَغَ الْأَجَلَ لَمْ يَنْفَعْهُ الْحَذَرُ، وَحَالَ الْقَدْرُ دُونَ الْبَصَرِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَالْقَائِلُونَ بِقَوْلِهِ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ‏:‏ كَانَ سَبَبُ تَفَقُّدِهِ الْهُدْهُدَ وَسُؤَالِهِ عَنْهُ لِيَسْتَخْبِرَهُ عَنْ بُعْدِ الْمَاءِ فِي الْوَادِي الَّذِي نَزَلَ بِهِ فِي مَسِيرِهِ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ‏:‏ كَانَ تَفَقُّدُهُ إِيَّاهُ وَسُؤَالُهُ عَنْهُ لِإِخْلَالِهِ بِالنَّوْبَةِ الَّتِي كَانَ يَنُوبُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ إِذْ لَمْ يَأْتِنَا بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ تَنْزِيلٌ، وَلَا خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحِيحٌ‏.‏

فَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ، إِمَّا لِلنَّوْبَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا وَأَخَلَّتْ بِهَا، وَإِمَّا لِحَاجَةٍ كَانَتْ إِلَيْهَا عَنْ بُعْدِ الْمَاءِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ‏}‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ ‏{‏مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ‏}‏ أَخْطَأَهُ بَصَرِي فَلَا أَرَاهُ وَقَدْ حَضَرَ أَمْ هُوَ غَائِبٌ فِيمَا غَابَ مِنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْخَلْقِ فَلَمْ يَحْضُرْ‏؟‏‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ‏:‏ ‏{‏مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ‏}‏ أَخْطَأَهُ بَصَرِي فِي الطَّيْرِ، أَمْ غَابَ فَلَمْ يَحْضُرْ‏؟‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَلَمَّا أُخْبِرَ سُلَيْمَانُ عَنِ الْهُدْهُدِ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ، وَأَنَّهُ غَائِبٌ غَيْرُ شَاهِدٍ، أَقْسَمَ ‏{‏لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ وَكَانَ تَعْذِيبُهُ الطَّيْرَ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ إِذَا عَذَّبَهَا أَنْ يَنْتِفَ رِيشَهَا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحِمَّانِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ قَالَ‏:‏ نَتْفُ رِيشِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي‏:‏ ‏{‏لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ عَذَابُهُ‏:‏ نَتْفُهُ وَتَشْمِيسُهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ قَالَ‏:‏ نَتْفُ رِيشِهِ وَتَشْمِيسُهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ قَالَ‏:‏ نَتْفُ رِيشِهِ كُلِّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ قَالَ‏:‏ نَتْفُ رِيشِ الْهُدْهُدِ كُلِّهِ، فَلَا يَغْفُو سِنَةً‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ نَتْفُ رِيشِهِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ نَتْفُ رِيشِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ عَذَابَهُ الَّذِي كَانَ يُعَذِّبُ بِهِ الطَّيْرَ نَتْفُ جَنَاحِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ قِيلَ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ‏:‏ هَذَا الذَّبْحُ، فَمَا الْعَذَابُ الشَّدِيدُ‏؟‏‏.‏ قَالَ‏:‏ نَتْفُ رِيشِهِ بِتَرْكِهِ بَضْعَةً تَنْزُو‏.‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ الرَّازِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ بَشَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ قَالَ‏:‏ نَتْفُهُ‏.‏

حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ أَبِي شَدَّادٍ، قَالَ‏:‏ نَتْفُهُ وَتَشْمِيسُهُ ‏{‏أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَوْ لَأَقْتُلَنَّهُ‏.‏

كَمَا حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَوْ لَأَقْتُلَنَّهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِبَادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ حَصِينٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ‏:‏ ‏{‏لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةُ، قَالَ‏:‏ فَتَلَقَّاهُ الطَّيْرُ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ‏:‏ أَلَمْ يَسْتَثْنِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِحُجَّةٍ تُبِينُ لِسَامِعِهَا صِحَّتَهَا وَحَقِيقَتَهَا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حُجَّةٌ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ بِبَيِّنَةٍ أَعْذِرُهُ بِهَا، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ بِغَيْرٍ بَيِّنَةٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ‏:‏ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ سُلْطَانٌ، فَهُوَ حُجَّةٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ قَبَاثُ بْنُ رَزِينٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ يَقُولُ‏:‏ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ‏:‏ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حُجَّةٌ، كَانَ لِلْهُدْهُدِ سُلْطَانٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ بِعُذْرٍ بَيِّنٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ‏:‏ ‏{‏أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ‏}‏‏:‏ أَيْ بِحُجَّةِ عُذْرٍ لَهُ فِي غَيْبَتِهِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ بِبَيِّنَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ ‏{‏الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ‏}‏ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ بِعُذْرٍ أَعْذِرُهُ فِيهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ‏}‏‏.‏

يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ‏}‏ فَمَكَثَ سُلَيْمَانُ غَيْرَ طَوِيلٍ مِنْ حِينَ سَأَلَ عَنِ الْهُدْهُدِ، حَتَّى جَاءَ الْهُدْهُدُ‏.‏

وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَمَكَثَ‏)‏ فَقَرَأَتْ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ سِوَى عَاصِمٍ‏:‏ “ فَمَكُثَ “ بِضَمِّ الْكَافِ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِفَتْحِهَا، وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ عِنْدَنَا صَوَابٌ؛ لِأَنَّهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَإِنْ كَانَ الضَّمُّ فِيهَا أَعْجَبَ إِلَيَّ، لِأَنَّهَا أَشْهَرُ اللُّغَتَيْنِ وَأَفْصَحُهُمَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَقَالَ الْهُدْهُدُ حِينَ سَأَلَهُ سُلَيْمَانُ عَنْ تَخَلُّفِهِ وَغَيْبَتِهِ‏:‏ أَحَطْتُ بِعِلْمِ مَا لَمْ تَحُطْ بِهِ أَنْتَ يَا سُلَيْمَانُ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ‏}‏ قَالَ‏:‏ مَا لَمْ تَعْلَمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ‏:‏ ‏{‏فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ‏}‏ ثُمَّ جَاءَ الْهُدْهُدُ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ‏:‏ مَا خَلَّفَكَ عَنْ نَوْبَتِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تَحُطْ بِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِخَبَرٍ يَقِينٍ‏.‏

وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ‏:‏ ‏{‏وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ‏}‏ أَيْ أَدْرَكْتُ مُلْكًا لَمْ يَبْلُغْهُ مُلْكُكَ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مِنْ سَبَإٍ‏}‏ فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ ‏{‏مِنْ سَبَإٍ‏}‏ بِالْإِجْرَاءِ‏.‏ الْمَعْنَى أَنَّهُ رَجُلٌ اسْمُهُ سَبَأٌ‏.‏ وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ ‏(‏مِنْ سَبَأَ‏)‏، بِتَرْكِ الْإِجْرَاءِ، عَلَى أَنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ أَوْ لِامْرَأَةٍ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَقَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءُ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ؛ فَالْإِجْرَاءُ فِي سَبَأَ، وَغَيْرُ الْإِجْرَاءِ صَوَابٌ، لِأَنَّ سَبَأَ إِنْ كَانَ رَجُلًا كَمَا جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ، فَإِنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الرَّجُلِ أُجْرِيَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْقَبِيلَةِ لَمْ يُجَرَّ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ فِي إِجْرَائِهِ‏:‏

الْـوَارِدُونَ وَتَيْـمٌ فِـي ذَرَا سَـبَإٍ *** قَـدْ عَـضَّ أعْنَـاقَهُمْ جِـلْدُ الْجَوَامِيسِ

يُرْوَى‏:‏ ذَرَا، وَذُرَى، وَقَدْ حُدِّثْتُ عَنِ الْفَرَّاءِ عَنِ الرُّؤَاسِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ كَيْفَ لَمْ يُجَرَّ سَبَأُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَسْتُ أَدْرِي مَا هُوَ؛ فَكَأَنَّ أَبَا عَمْرٍو تَرَكَ إِجْرَاءَهُ إِذْ لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ، كَمَا تَفْعَلُ الْعَرَبُ بِالْأَسْمَاءِ الْمَجْهُولَةِ الَّتِي لَا تَعْرِفُهَا مِنْ تَرْكِ الْإِجْرَاءِ، حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ‏:‏ هَذَا أَبُو مَعْرُورَ قَدْ جَاءَ، فَتَرَكَ إِجْرَاءَهُ إِذْ لَمْ يَعْرِفْهُ فِي أَسْمَائِهِمْ‏.‏ وَإِنْ كَانَ سَبَأٌ جَبَلًا أُجْرِيَ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْجَبَلُ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُجَرَّ فَلِأَنَّهُ يُجْعَلُ اسْمًا لِلْجَبَلِ وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الْبُقْعَةِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ الْهُدْهُدِ لِسُلَيْمَانَ مُخْبِرًا بِعُذْرِهِ فِي مَغِيبِهِ عَنْهُ‏:‏ ‏{‏إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ‏}‏ يَعْنِي تَمْلِكُ سَبَأَ، وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا الْخَبَرُ لِلْهُدْهُدِ عُذْرًا وَحُجَّةً عِنْدَ سُلَيْمَانَ، دَرَأَ بِهِ عَنْهُ مَا كَانَ أُوعِدُ بِهِ؛ لِأَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ لَا يَرَى أَنَّ فِي الْأَرْضِ أَحَدًا لَهُ مَمْلَكَةٌ مَعَهُ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا حُبِّبَ إِلَيْهِ الْجِهَادُ وَالْغَزْوُ، فَلَمَّا دَلَّهُ الْهُدْهُدُ عَلَى مُلْكٍ بِمَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ هُوَ لِغَيْرِهِ، وَقَوْمٍ كَفَرَةٍ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ، لَهُ فِي جِهَادِهِمْ وَغَزْوِهِمُ الْأَجْرُ الْجَزِيلُ، وَالثَّوَابُ الْعَظِيمُ فِي الْآجِلِ، وَضَمُّ مُمْلَكَةٍ لِغَيْرِهِ إِلَى مُلْكِهِ، حَقَّتْ لِلْهُدْهُدِ الْمَعْذِرَةُ، وَصَحَّتْ لَهُ الْحُجَّةُ فِي مَغِيبِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْتَاهُ الْمَلِكُ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا مِمَّا يَكُونُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعَتَادِ وَالْآلَةِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْبَاجِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ مِنْ كُلِّ أَمْرِ الدُّنْيَا‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَهَا كُرْسِيٌّ عَظِيمٌ‏.‏ وَعُنِيَ بِالْعَظِيمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ الْعَظِيمُ فِي قَدْرِهِ، وَعِظَمُ خَطَرِهِ، لَا عِظَمُهُ فِي الْكِبَرِ وَالسِّعَةِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ سَرِيرٌ كَرِيمٌ، قَالَ‏:‏ حَسَنُ الصَّنْعَةِ، وَعَرْشُهَا‏:‏ سَرِيرٌ مِنْ ذَهَبٍ قَوَائِمُهُ مِنْ جَوْهَرٍ وَلُؤْلُؤٍ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْبَاجِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ‏}‏ يَعْنِي سَرِيرٌ عَظِيمٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَجَدْتُ هَذِهِ الْمَرْأَةَمَلِكَةَ سَبَأٍ، وَقَوْمَهَا مِنْ سَبَأٍ، يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ فَيَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَحَسَّنَ لَهُمْ إِبْلِيسُ عِبَادَتَهُمُ الشَّمْسَ، وَسُجُودَهُمْ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَحَبَّبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ ‏{‏فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَمَنَعَهُمْ بِتَزْيِينِهِ ذَلِكَ لَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ، وَمَعْنَاهُ‏:‏ فَصَدَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ ‏{‏فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَهُمْ لِمَا قَدْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا زَيَّنَ مِنَ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْكُفْرِ بِهِ لَا يَهْتَدُونَ لِسَبِيلِ الْحَقِّ وَلَا يَسْلُكُونَهُ، وَلَكِنَّهُمْ فِي ضَلَالِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَتَرَدَّدُونَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِوَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ‏{‏أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ‏}‏ فَقَرَأَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَبَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ “ أَلَا “ بِالتَّخْفِيفِ، بِمَعْنَى‏:‏ أَلَا يَا هَؤُلَاءِ اسْجُدُوا، فَأَضْمَرُوا “ هَؤُلَاءِ “ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ “ يَا “ عَلَيْهَا‏.‏ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ سَمَاعًا مِنَ الْعَرَبِ‏:‏ أَلَا يَا ارْحَمْنَا، أَلَا يَا تَصَدَّقْ عَلَيْنَا؛ وَاسْتُشْهِدَ أَيْضًا بِبَيْتِ الْأَخْطَلِ‏:‏

أَلَا يـا اسْـلَمِي يـا هِنْـدُ هِنْدَ بَنِي بَدْرٍ *** وَإِنْ كـانَ حَيَّانَـا عِـدًا آخِـرَ الدَّهْـرِ

فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ اسْجُدُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جَزْمٌ، وَلَا مَوْضِعَ لِقَوْلِهِ “ أَلَا “ فِي الْإِعْرَابِ‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ ‏{‏أَلَّا يَسْجُدُوا‏}‏ بِتَشْدِيدٍ أَلَّا بِمَعْنَى‏:‏ وَزَيَّنَّ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ لِئَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ “ أَلَّا “ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِمَا ذَكَرْتُ مِنْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لِئَلَّا ‏(‏وَيَسْجُدُوا‏)‏ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَنْ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءُ مِنَ الْقُرَّاءِ مَعَ صِحَّةِ مَعْنَيَيْهِمَا‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ دُخُولِ “ يَا “ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ‏:‏ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ أَمْرًا، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمُ‏:‏ اسْجُدُوا، وَزَادَ “ يَا “ بَيْنَهُمَا الَّتِي تَكُونُ لِلتَّنْبِيهِ، ثُمَّ أَذْهَبَ أَلِفَ الْوَصْلِ الَّتِي فِي اسْجُدُوا، وَأُذْهِبَتِ الْأَلِفُ الَّتِي فِي “ يَا “؛ لِأَنَّهَا سَاكِنَةٌ لَقِيَتِ السِّينَ، فَصَارَ أَلَا يَسْجُدُوا‏.‏ وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ‏:‏ هَذِهِ “ يَا “ الَّتِي تَدْخُلُ لِلنِّدَاءِ يُكْتَفَى بِهَا مِنَ الِاسْمِ، وَيُكْتَفَى بِالِاسْمِ مِنْهَا، فَتَقُولُ‏:‏ يَا أَقْبِلْ، وَزَيْدُ أَقْبِلْ، وَمَا سَقَطَ مِنَ السَّوَاكِنِ فَعَلَى هَذَا‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يُخْرِجُ الْخَبْءَ‏}‏ يُخْرِجُ الْمَخْبُوءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ غَيْثٍ فِي السَّمَاءِ، وَنَبَاتٍ فِي الْأَرْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ‏.‏

وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَتُهُمْ عَنْهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قِرَاءَةً عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْغَيْثُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يُخْرِجُ الْخَبْءَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْغَيْثَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ قَالَ‏:‏ خَبْءُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْأَرْزَاقِ، وَالْمَطَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَالنَّبَاتُ مِنَ الْأَرْضِ، كَانَتَا رَتْقًا لَا تُمْطِرُ هَذِهِ، وَلَا تَنْبُتُ هَذِهِ، فَفَتَقَ السَّمَاءَ وَأَنْزَلَ مِنْهَا الْمَطَرَ، وَأَخْرَجَ النَّبَاتَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ وَيَعْلَمُ كُلَّ خُفْيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَلَى بَغْلَةٍ يَسْأَلُ تُبَّعًا ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبٍ‏:‏ هَلْ سَأَلْتَ كَعْبًا عَنِ الْبَذْرِ تَنْبُتُ الْأَرْضُ الْعَامَ لَمْ يُصِبِ الْعَامَ الْآخَرَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ كَعْبًا يَقُولُ‏:‏ الْبَذْرُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَيَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ‏:‏ صَدَقْتَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ إِنَّمَا هُوَ تُبَيْعٌ، وَلَكِنَّ هَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ‏:‏ وَقِيلَ‏:‏ يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَضَعُ “ مِنْ “ مَكَانَ “ فِي “ وَ“ فِي “ مَكَانَ “ مِنْ “ فِي الِاسْتِخْرَاجِ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَيَعْلَمُ السِّرَّ مِنْ أُمُورِ خَلْقِهِ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَالْعَلَانِيَةَ مِنْهَا، وَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ أَلَّا بِالتَّشْدِيدِ‏.‏ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ وَيَعْلَمُ مَا يُسِرُّهُ خَلْقُهُ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ بِالسُّجُودِ بِقَوْلِهِ‏:‏ “ أَلَا يَا هَؤُلَاءِ اسْجُدُوا “‏.‏ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ‏:‏ “ أَلَا تَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَمَا تُعْلِنُونَ “‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ اللَّهُ الَّذِي لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَا مَعْبُودَ سِوَاهُ تَصْلُحُ لَهُ الْعِبَادَةُ، فَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، وَأَفْرِدُوهُ بِالطَّاعَةِ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ‏{‏رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏}‏ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ مَالِكَ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الَّذِي كَلُّ عَرْشٍ وَإِنْ عَظُمَ فَدُونَهُ، لَا يُشْبِهُهُ عَرْشُ مَلِكَةِ سَبَأَ وَلَا غَيْرُهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ؛ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏}‏ هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الْهُدْهُدِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِنَحْوِهِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏قَالَ‏)‏ سُلَيْمَانُ لِلْهُدْهُدِ‏:‏ ‏(‏سَنَنْظُرُ‏)‏ فِيمَا اعْتَذَرْتَ بِهِ مِنَ الْعُذْرِ، وَاحْتَجَجْتَ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِغَيْبَتِكَ عَنَّا، وَفِيمَا جِئْتَنَا بِهِ مِنَ الْخَيْرِ ‏(‏أَصَدَقْتَ‏)‏ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ‏{‏أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ‏}‏ فِيهِ ‏{‏اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ‏}‏‏.‏

فَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا، فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ، فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ، ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ مُنْصَرِفًا إِلَيَّ، فَقَالَ‏:‏ هُوَ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ فَأَجَابَهُ سُلَيْمَانُ، يَعْنِي أَجَابَ الْهُدْهُدَ لَمَّا فَرَغَ‏:‏ ‏{‏سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ‏}‏ وَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ، ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ مُنْصَرِفًا إِلَيَّ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ وَكَانَتْ لَهَا كُوَّةٌ مُسْتَقْبِلَةٌ الشَّمْسَ، سَاعَةَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ تَطْلُعُ فِيهَا فَتَسْجُدُ لَهَا، فَجَاءَ الْهُدْهُدُ حَتَّى وَقْعَ فِيهَا فَسَدَّهَا، وَاسْتَبْطَأَتِ الشَّمْسَ، فَقَامَتْ تَنْظُرُ، فَرَمَى بِالصَّحِيفَةِ إِلَيْهَا مِنْ تَحْتِ جَنَاحِهِ، وَطَارَ حَتَّى قَامَتْ تَنْظُرُ الشَّمْسَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهُدْهُدَ تَوَلَّى إِلَى سُلَيْمَانَ رَاجِعًا بَعْدَ إِلْقَائِهِ الْكِتَابَ، وَأَنَّ نَظَرَهُ إِلَى الْمَرْأَةِ مَا الَّذِي تَرْجِعُ وَتَفْعَلُ كَانَ قَبْلَ إِلْقَائِهِ كِتَابَ سُلَيْمَانَ إِلَيْهَا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ، فَكُنْ قَرِيبًا مِنْهُمْ، وَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ؛ قَالُوا‏:‏ وَفَعَلَ الْهُدْهُدُ، وَسَمِعَ مُرَاجِعَةَ الْمَرْأَةِ أَهْلَ مَمْلَكَتِهَا، وَقَوْلهَا لَهُمْ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مُرَاجَعَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ أَيْ كُنْ قَرِيبًا ‏{‏فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ‏}‏ وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ مُرَاجَعَةَ الْمَرْأَةِ قَوْمَهَا، كَانَتْ بَعْدَ أَنْ أُلْقِيَ إِلَيْهَا الْكِتَابَ، وَلَمْ يَكُنِ الْهُدْهُدُ لِيَنْصَرِفَ وَقَدْ أُمِرَ بِأَنْ يَنْظُرَ إِلَى مُرَاجَعَةِ الْقَوْمِ بَيْنَهُمْ مَا يَتَرَاجَعُونَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ سُلَيْمَانُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَذَهَبَ الْهُدْهُدُ بِكِتَابِ سُلَيْمَانَ إِلَيْهَا، فَأَلْقَاهُ إِلَيْهَا فَلَمَّا قَرَأَتْهُ قَالَتْ لِقَوْمِهَا‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ‏}‏‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ‏:‏ كَتَبَ-يَعْنِي سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ- مَعَ الْهُدْهُدِ‏:‏ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، إِلَىبِلْقِيسَ بِنْتِ ذِي سَرْحٍوَقَوْمِهَا، أَمَّا بَعْدُ، فَلَا تَعْلُو عَلَيَّ، وَأَتَوْنِي مُسْلِمِينَ، قَالَ‏:‏ فَأَخَذَ الْهُدْهُدُ الْكِتَابَ بِرِجْلِهِ، فَانْطَلَقَ بِهِ حَتَّى أَتَاهَا، وَكَانَتْ لَهَا كُوَّةٌ فِي بَيْتِهَا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ نَظَرَتْ إِلَيْهَا، فَسَجَدَتْ لَهَا، فَأَتَى الْهُدْهُدُ الْكُوَّةَ فَسَدَّهَا بِجَنَاحَيْهِ حَتَّى ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ وَلَمْ تَعْلَمْ، ثُمَّ أَلْقَى الْكِتَابَ مِنَ الْكُوَّةِ، فَوَقْعَ عَلَيْهَا فِي مَكَانِهَا الَّذِي هِيَ فِيهِ، فَأَخَذَتْهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ بَلَغَنِي أَنَّهَا امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَابِلْقِيسُ، أَحْسَبُهُ قَالَ‏:‏ ابْنَةُ شَرَاحِيلَ، أَحَدُ أَبَوَيْهَا مِنَ الْجِنِّ، مُؤَخَّرُ أَحَدِ قَدَمَيْهَا كَحَافِرِ الدَّابَّةِ، وَكَانَتْ فِي بَيْتِ مَمْلَكَةٍ، وَكَانَ أُولُو مَشُورَتِهَا ثَلَاثُ مِائَةٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ، وَكَانَتْ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا مَأْرِبُ، مِنْ صَنْعَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ فَلَمَّا جَاءَ الْهُدْهُدُ بِخَبَرِهَا إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، كَتَبَ الْكِتَابَ وَبَعَثَ بِهِ مَعَ الْهُدْهُدِ، فَجَاءَ الْهُدْهُدُ وَقَدْ غُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ، وَكَانَتْ تُغَلِّقُ أَبْوَابَهَا وَتَضَعُ مَفَاتِيحَهَا تَحْتَ رَأْسِهَا، فَجَاءَ الْهُدْهُدُ فَدَخَلَ مِنْ كُوَّةٍ، فَأَلْقَى الصَّحِيفَةَ عَلَيْهَا، فَقَرَأَتْهَا، فَإِذَا فِيهَا‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ‏}‏ وَكَذَلِكَ كَانَتْ تَكْتُبُ الْأَنْبِيَاءُ لَا تُطْنِبُ، إِنَّمَا تَكْتُبُ جُمَلًا‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ لَمْ يَزِدْ سُلَيْمَانُ عَلَى مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ إِنَّهُ وَإِنَّهُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ‏}‏ فَمَضَى الْهُدْهُدُ بِالْكِتَابِ، حَتَّى إِذَا حَاذَى الْمَلِكَةَ وَهِيَ عَلَى عَرْشِهَا أَلْقَى إِلَيْهَا الْكِتَابَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ‏}‏ وَالْمَلَأُ أَشْرَافُ قَوْمِهَا، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قَالَتْ مَلِكَةُ سَبَأَ لِأَشْرَافِ قَوْمِهَا‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ‏}‏‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي سَبَبِ وَصْفِهَا الْكِتَابَ بِالْكَرِيمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ وَصَفَتْهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مَخْتُومًا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ وَصَفَتْهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مَنْ مَلِكٍ فَوَصَفَتْهُ بِالْكَرَمِ لِكَرَمِ صَاحِبِهِ‏.‏ وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ زَيْدٍ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ كِتَابُ سُلَيْمَانَ حَيْثُ كَتَبَ إِلَيْهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ كُسِرَتْ إِنَّ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ عَلَى الرَّدِّ عَلَى “ إِنِّي “ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ‏}‏‏.‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ قَالَتْ‏:‏ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ، وَإِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ‏.‏

فَفِي “ أَنْ “ وَجْهَانِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ‏:‏ إِنْ جُعِلَتْ بَدَلًا مِنَ الْكِتَابِ كَانَتْ رَفْعًا بِمَا رَفَعَ بِهِ الْكِتَابَ بَدَلًا مِنْهُ؛ وَإِنْ جُعِلَ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ كَانَتْ نَصْبًا بِتَعَلُّقِ الْكِتَابِ بِهَا‏.‏

وَعَنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ‏}‏ أَلَّا تَتَكَبَّرُوا وَلَا تَتَعَاظَمُوا عَمَّا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ‏}‏ أَلَّا تَمْتَنِعُوا مِنَ الَّذِي دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ إِنِ امْتَنَعْتُمْ جَاهَدْتُكُمْ، فَقُلْتُ لِابْنِ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ‏}‏ أَلَّا تَتَكَبَّرُوا عَلَيَّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ؛ قَالَ‏:‏ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ‏}‏ ذَلِكَ فِي كِتَابِ سُلَيْمَانَ إِلَيْهَا‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَقْبَلُوا إِلَيَّ مُذْعِنِينَ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالطَّاعَةِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قَالَتْمَلِكَةُ سَبَأٍلِأَشْرَافِ قَوْمِهَا‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي‏}‏ تَقُولُ‏:‏ أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي أَمْرِي الَّذِي قَدْ حَضَرَنِي مِنْ أَمْرِ صَاحِبِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أُلْقِيَ إِلَيَّ، فَجَعَلَتِ الْمَشُورَةَ فُتْيَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ‏}‏ تَقُولُ‏:‏ مَا كُنْتُ قَاضِيَةً أَمْرًا فِي ذَلِكَ حَتَّى تَشْهَدُونِ، فَأُشَاوِرُكُمْ فِيهِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ دَعَتْ قَوْمَهَا تُشَاوِرُهُمْ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ‏}‏ يَقُولُ فِي الْكَلَامِ‏:‏ مَا كُنْتُ لِأَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ وَلَا كُنْتُ لِأَقْضِيَ أَمْرًا، فَلِذَلِكَ قَالَتْ‏:‏ ‏{‏مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا‏}‏ بِمَعْنَى‏:‏ قَاضِيَةً‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِمَلِكَةِ سَبَأٍ، إِذْ شَاوَرَتْهُمْ فِي أَمْرِهَا وَأَمْرِ سُلَيْمَانَ‏:‏ نَحْنُ ذَوُو الْقُوَّةِ عَلَى الْقِتَالِ، وَالْبَأْسِ الشَّدِيدِ فِي الْحَرْبِ، وَالْأَمْرُ أَيَّتُهَا الْمَلِكَةُ إِلَيْكِ فِي الْقِتَالِ وَفِي تَرْكِهِ، فَانْظُرِي مِنَ الرَّأْيِ مَا تَرَيْنَ، فَمُرِينَا نَأْتَمِرُ لِأَمْرِكِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ عَرَضُوا لَهَا الْقِتَالَ، يُقَاتِلُونَ لَهَا، وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ بَعْدَ هَذَا، ‏{‏فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ كَانَ مَعَمَلِكَةِ سَبَأٍاثْنَا عَشَرَ أَلْفِ قُيُولٍ مَعَ كُلٍّ قُيُولٍ مِئَةُ أَلْفٍ‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ كَانَ مَعَبِلْقِيسَمِائَةُ أَلْفِ قَيْلٍ، مَعَ كُلِّ قَيْلٍ مِائَةُ أَلْفٍ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ‏:‏ كَانَتْ تَحْتَ يَدِمَلِكَةِ سَبَأٍاثْنَا عَشَرَ أَلْفِ قُيُولٍ، وَالْقُيُولُ بِلِسَانِهِمْ‏:‏ الْمَلِكُ، تَحْتَ يَدِ كُلِّ مَلِكٍ مِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ‏.‏